النيجر بين الانقلاب و”الاستعمار”.. قراءة في المواقف والسيناريوهات

بدت الصورة في النيجر للوهلة الأولى وكأنها واحدة من مشاهد الانقلابات المعهودة في افريقيا، يعتقل الحرس الرئيس، ويعلن الجيش تغيير النظام عبر التلفزيون، متحججا بسوء الأوضاع، لكن الوضع في نيامي بدا أكثر تعقيدا من ذلك، فخيوط الانقلاب متشابكة جدا، وتلامس أكثر من قضية تهم صنّاع القرار في العالم.

حسب معلومات من مصادر مقربة من الرئيس المنقلب عليه محمد بازوم، فإن الأسباب المباشرة للانقلاب هي اعتراض قادة الجيش على قرار أصدره بازوم بالإفراج عن متهمين بالإرهاب، وربما كان ذلك في إطار “اتفاق غير معلن” بينه وبين الجماعات الإرهابية الناشطة في المنطقة، وهي مقاربة اتخذتها بعض دول المنطقة وجنبتها هجمات التنظيمات المسلحة، لكن هذه “المتاركة” تثير الكثير من الجدل، وإن كانت لم تعجب قادة الجيش في النيجر، فإنها ربما لم تعجب أيضا بعض الدول الكبرى الشريكة لدول المنطقة في مكافحة الإرهاب.

بعد الانقلاب العسكري على الرئيس ذو الأصول العربية محمد بازوم، لقي الحدث اهتماما كبيرا، عالميا وعربيا، بشكل لم يلقه أي انقلاب آخر في افريقيا -على كثرتها في السنوات الأخيرة- وذلك لعدة أسباب من أبرزها ربطه بصراع القوى الكبرى على النفوذ في القارة السمراء بشكل عام، ومنطقة الساحل بشكل خاص، إضافة إلى تأثيره المحتمل على أمن منطقة باتت مرتعًا للجماعات “الإرهابية”، وميدانا للصراع على السلطة، مما جعلها شريط أزمات ممتدة من المحيط الأطلسي حتى البحر الأحمر.

نجح العسكر في تحويل الانقلاب إلى قضية وطنية تلبس ثوب الثورة ضد فرنسا ونفوذها السياسي ووجودها العسكري، وحضورها الاقتصادي في مستعمرتها السابقة، وهو الأمر الذي أكسب الانقلابيين دعما قويًا على المستوى الشعبي داخل النيجر وحتى في منطقة غرب افريقيا التي تعيش أغلب دولها حراكا شعبيا متزايدا ضد فرنسا وسياساتها التي يصفها مناهضوها بالاستعمارية.

القرار الذي اتخذه العسكر في النيجر، بتحدي فرنسا وإلغاء جميع الاتفاقيات معها، لم يكونوا ليتخذوه لولا أن لهم سلفا في ذلك، حيث يجاهر العسكر الحاكم في كل من مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري، بمواجهة النفوذ الفرنسي في المنطقة، كما يعلنون التحالف مع روسيا، وذهبت باماكو أبعد من ذلك حين أحلت قوات الشركة الروسية “فاغنر” محل القوات الفرنسية التي كانت تحارب الجماعات “الإرهابية” في مالي. 

وضع الانقلاب في النيجر الدول الكبرى وحكومات دول المنطقة في أزمة عبرت عنها المواقف المختلفة، فدول المنطقة التي يحكمها العسكر أظهرت دعمها للتغيير في النيجر، وأبدت استعدادها للقتال مع الجيش النيجري ضد أي عمل عسكري محتمل، الأمر الذي يزيد الأزمة تعقيدا، ويهدد تماسك المنظمة الاقتصادية لدول غرب افريقيا (اكواس).

في المقابل، يخشى رؤساء دول غرب افريقيا التي تعد مستقرة نسبيا، من تفشي عدوى الانقلابات إذا قبل العالم انقلاب عسكر النيجر، ويتحمس هؤلاء القادة للعمل العسكري لإعادة الشرعية “الديمقراطية” في النيجر، وربما واجهوا ضغوطات فرنسية للمضي في هذا الاتجاه.

الموقف الفرنسي الذي تدعمه دول أوروبية أخرى، كان أكثر صرامة ضد الانقلابين، لأن مصالح فرنسا الاقتصادية ستتضرر بشكل واضح، وسيؤدي خروج النيجر عن سيطرتها إلى تراجع كبير جدا لنفوذها في القارة الافريقية.

ومن أجل كسب مزيد من الدعم الغربي والأمريكي خاصة، تستخدم فرنسا “فزاعة” النفوذ الروسي في المنطقة، وتهول من التهديدات التي يطلقها العسكر باستدعاء قوات “فاغنر”.

وتدفع فرنسا دول المنظمة الاقتصادية لغرب افريقيا (اكواس) إلى التدخل العسكري الذي قد تسانده ميدانيا عن طريق قاعدة عسكرية لها في النيجر، فبعد انتهاء مهلة منحتها (اكواس) للانقلابين لتسليم السلطة، سيجتمع قادة الدول لاتخاذ قرار بالتدخل العسكري أو بتمديد المهلة من أجل فسح المجال للوساطات والحلول الدبلوماسية.

تؤكد جيوش دول (اكواس) الداعمة للقرار جاهزيتها للتدخل، لكن هذا السيناريو وإن كان مطروحا في حال فشل الحلول السلمية، فإنه يعد مغامرة كبيرة، قد تدخل المنطقة في حرب بين عدة أطراف، كما أن الدول المرشحة للقيام بهذا التدخل العسكري، كالسنغال ونيجيريا، تعاني من مشاكل داخلية وتواجه معارضة شعبية لأي عمل عسكري ضد نيامي. 

في الجزائر التي ترتبط بحدود كبيرة مع النيجر، كان الموقف مركبا من شقين، فهي ضد الانقلاب وتطالب بعودة بازوم، وفي نفس الوقت ترفض التدخل العسكري، وضد النفوذ الفرنسي.

قد لا يعجب هذا الموقف جميع الأطراف، لكنه يبدو أقرب إلى السلطات العسكرية، وقد يتقارب معها أكثر في حال أعلنت عن تنازلات وإجراءات لعودة النظام الدستوري، وقد تدعم الجزائر أي وساطة لحل الأزمة مع الحفاظ على الأمن والسلم على حدودها.

أما الموقف الأمريكي فهو ضبابي إلى حد ما فالتصريحات الرسمية تدين الانقلاب وتدعو إلى عودة “النظام الدستوري”، وهي كلمة قد لا تعني بالضرورة عودة الرئيس السابق محمد بازوم، ففي كثير من الدول تحكّم العسكر وتجاوز أزمة الانقلابات بمجرد الإعلان عن خطة لعودة النظام الدستوري وتنظيم انتخابات في فترة زمنية محددة.

من المؤكد أن الولايات المتحدة لا تريد نظاما متحالفا مع روسيا في النيجر، وتؤكد واشنطن أنها تخشى من تراجع الديمقراطية وتدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية في افريقيا، لكنها قد لا تتفق مع كل سياسيات فرنسا في المنطقة، وربما تكون هذه هي الفرصة لبسط مزيد من النفوذ في المنطقة الغنية بالمعادن والواعدة بالاكتشافات من النفط والغاز.

ولم تكن أمريكا بعيدة عن المنطقة فقد دربت قادة عسكريين أفارقة، من بينهم من تولى الحكم، وذلك في إطار برنامج عسكري بدأ قبل عشرين عاما تحت مسمى “بان ساحل” مخصص لتدريب الجيوش الافريقية على الإرهاب والإرهاب العابر للحدود.

وقد تكون المناشدة التي أطلقها الرئيس محمد بازوم لأمريكا، عبر مقال نشره في صحيفة الواشنطن بوست، محاولة منه ومن حلفائه لإقناع الولايات المتحدة بالحل العسكري لإنهاء أزمة الانقلاب وقطع الطريق على أصدقاء الروس المحتملين، بيد أن واشنطن عبرت عبر تصريحات مسؤوليها أن الطرق الدبلوماسية هي الوسيلة الأمثل لحل الأزمة في النيجر، وهي معارضة واضحة للتدخل العسكري.

وفي الساعات الأخيرة، وبعد انتهاء مهلة الاكواس، تسعى أمريكا عبر مسؤولين في وزارة الخارجية لإنعاش وساطة افريقية بدأت قبل أيام.

تبدو الوساطة والحلول السلمية هي السيناريو الأقرب لحل الأزمة، لكن أقصى ما يتوقع منها هو الوصول إلى اتفاق بين الأطراف على تسليم السلطة لطرف مدني ثالث، أو بقاء العسكر مع أخذ ضمانات منهم على تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية، وتقديم امتيازات للطرف الآخر، لكنها لن تعيد بازوم إلى السلطة ليكمل مأموريته.

زر الذهاب إلى الأعلى