شبح الفوضى المستدامة يهدد الساحل

مع تنصل رئيس المجلس العسكري الانتقالي في باماكو عاصيمي غويتا من اتفاق السلم والمصالحة الموقع مع الأزواد عام 2015، واعتزام الجيش استرجاع السيطرة على كامل الأراضي بما فيها الخاضعة منذ عقود لسلطة قبائل الطوارق، بات شبح الفوضى المستدامة يتربص بمالي ودول الجوار التي تقاسمها نفس الامتداد القبائلي، وسط مخاوف من عودة النزعة الانفصالية، واستغلال الجماعات الإرهابية للأوضاع لتعزيز نفوذها على الأرض.

أعلن غويتا في خطاب له بمناسبة حلول السنة الميلادية الجديدة عن تشكيل لجنة وطنية للحوار في غضون شهر، تتولى تجهيز تقرير يسلم خلال فبراير الموالي، وأدرج هذا الخيار ضمن ما أسماه “الأفضلية الوطنية في عملية السلام لإعطاء الفرصة لإجراء حوار مباشر بين الماليين”، في خطوة تؤشر لتنصل قادة مالي من اتفاق 2015 الموقع مع المعارضة المسلحة في شمال البلاد.

ويرى أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية خالد خليف أن “السلطات في مالي لم تقرأ حسابا لمخاطر خطوتها وتأثيراتها على أمن مالي ودول الجوار ومنطقة الساحل ككل، حين ذهبت لإعلان تخليها عن اتفاق الجزائر الذي كان دعامة مهمة في بسط السلم والاستقرار داخل مالي”.

ولفت في اتصال مع “الخبر” إلى أن “الجزائر منذ بداية وساطتها في أزمة البلد الحدودي كانت دائما مع لغة الحوار، والحل التشاركي بين الماليين أنفسهم، مع توفير الأرضية الجامعة والشاملة لكل مكونات الشعب وأطياف الطبقة السياسية المالية دون إقصاء”، مستدركا: “لكن يبدو أن السلطات العسكرية في مالي لها رأي آخر، وقد تبنته فعليا، لأن الأحداث الأخيرة أكدت أن هناك خيوطا تدار بها الشؤون المالية من خارج البلاد”.

تحييد الجزائر

وفي تفسيره لتحركات باماكو، قال الدكتور كمال الزغول، المراقب الدولي العسكري سابقا لدى الأمم المتحدة، إن “المشكلة الأساسية هي محاولة استثناء الجزائر من دورها الرئيسي في التأثير في وضع دولة مالي القادم”، وأوضح في اتصال مع “الخبر” أن السبب وراء ذلك هو الفراغ الذي تركته القوات الفرنسية وراءها، والاستقطاب الدولي داخل دولة مالي تحت سيطرة المجلس العسكري.

ومن هنا، يرى المسؤول الأممي، “هناك أطراف فاعلة تلعب دورا كبيرا في مالي وهي: تنسيقية الأزواد في الشمال، والأمم المتحدة، والمجلس العسكري، والحركات الإرهابية على المثلث بين مالي والنيجر وبوركينافاسو، وحركة فاغنر الروسية التي تنشط في جميع هذه الدول”.

وبالنسبة لدور الجزائر، يؤكد الدكتور كمال الزغول أنه يأتي من باب “الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة، وضمان أمنها القومي في ظل تعدد الانقلابات العسكرية في المنطقة، وعدم تحديد التوجه الاستراتيجي فيها، فضلا عن ضعف المشاركة السياسية في ظل وجود مجلس عسكري لا يريد دمج قوات الأزواد في الجيش، والذي بدوره يستثني أي دور قادم لهم، ولذلك يقوم الجيش بشن حملات على الإرهاب دون مشاركة الأزواد بذلك، لبسط مزيد من السيطرة في منطقة الشمال”.

الوحدة مقابل الإدماج

ويتمثل الهدف الرئيسي لاتفاق الجزائر في منع انفصال إقليم الأزواد، وبالمقابل يسعى لضمان تكفل باماكو بتنمية الإقليم المهمش، وإدماج مسلحيه في قوات الأمن والجيش، وأيضا في المناصب المدنية، وقد اعترى تنفيذ الاتفاق بعض التعثر لاختلاف الطرفين في قراءة مضمونه، خاصة ما تعلق بشروط تفكيك الحركات المسلحة وإعادة دمجها في الجيش النظامي.

وأدى الانقلاب العسكري في 2020 إلى تعقيد الوضع أكثر، وهددت تنسيقية الأزواد بالانسحاب من اتفاق السلام نظرا لعدم تنفيذ باماكو بنوده طيلة السنوات الماضية، لكن الجزائر تدخلت أكثر من مرة لمنع انهياره.

ورغم إعلان المجلس العسكري في أوت 2022 عن توصله إلى اتفاق لدمج 26 ألف من عناصر الحركات الموقعة على اتفاق السلام في الجيش وقوات الأمن على دفعتين، إلا أن العملية عرفت تأخرا كبيرا بسبب الخلاف حول الرتب العسكرية، فضلا عن أن “السلطات المؤقتة” التي كانت تسيطر على مدينة كيدال قبل أشهر لم تتلق الأموال الموعودة، واعتبرت أنها ترُكت وحيدة في مواجهة ضربات الجماعات الإرهابية.

اختلال ميزان القوى

ويرى المجلس العسكري أن ميزان القوى في إقليم أزواد اختل لصالحه، ما يمكّنه من تحريك قواته للتمركز في المنطقة وإثبات سيادته الكاملة عليها، ولو أدى ذلك إلى انهيار اتفاق السلام، فالقوات الفرنسية التي كانت تحول دون دخول الجيش المالي إلى بعض مدن الشمال مثل كيدال وتومبوكتو، لتفادي أي احتكاك مسلح مع مسلحي الطوارق، رحلت في 2022، ولم تتمكن القوات الأممية من ملء فراغ رحيل القوات الفرنسية والأوروبية المساندة لها، وأدت ضغوط المجلس العسكري فيما بعد إلى بداية انسحابها من المنطقة ولجأ الجيش إلى الاستعانة بدعم فاغنر، إضافة إلى المسيّرات التركية وبعض الأسلحة الصينية، ما عزز ثقة الجيش في قدراته على تغيير معادلة الصراع في المنطقة.

وفي تطور آخر، وقع قادة كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو في سبتمبر الماضي على تحالف ثلاثي للدفاع المشترك عن أي طرف يتعرض لأي تهديد، ورغم أن الرسالة موجهة ضد فرنسا ودول “إيكواس” والجماعات الإرهابية، إلا أنها أيضا موجهة للطوارق الذين لديهم “نزعة انفصالية” في الدول الثلاث، فضلا عن أن الحركات المسلحة في الأزواد استنزفت بالأشهر الأخيرة في معارك مع تنظيمات إرهابية تابعة لـ “القاعدة” و “داعش”.

نيامي تعوّل على الطوارق

وكشف القيادي في حزب التجديد الديمقراطي الجمهوري في النيجر عمر الأنصاري أن بلاده شاركت بالفعل في حملة استرجاع كيدال، مستدركا في تصريح لـ “الخبر” أن هذا الفعل امتعظ منه طوارق النيجر، وقد أعلن “المتمرد” السابق عيسى اغ بولا، حسبه، إرسال بعض رجاله إلى كيدال لصد هجوم التحالف الثلاثي عليها، قبل أن تعلن حكومة باماكو السيطرة عليها.

وأكد المتحدث أن الحكومة الحالية في النيجر تدعم المجلس العسكري بمالي، لكنها تخشى من انتفاضة طوارق النيجر أيضا، “وهذا ما دفعها إلى التقارب مع شخصيات متمردة سابقا مثل أغالي ألمبو وغيره، كما أنها بدأت مشاورات تحديد المرحلة الانتقالية والأسس التي تحكمها بإقليم أغاديز شمال البلاد”.

ويرجح عمر الأنصاري أن تكون هذه التحركات “باتفاق مع أعضاء التحالف، ليقوم طوارق النيجر بدور رجال المطافئ بالتحالف ومحاولة التقريب بين طوارق مالي وحكومتهم. وهذا ما أشار إليه رئيس المجلس المحلي بأغاديز محمد أنكو، حين صرح في اجتماع جمعه مع رؤساء حكومات التحالف الثلاثي بأن على حكومات التحالف الثلاثي أن تراعي السلام مع مكوناتها الداخلية أولا، فنحن جميعا نتكون من نفس الامتداد القبائلي”.

فوضى أمنية

ويشار إلى أن اندلاع حرب بين قوات المجلس العسكري المالي وحركات الأزواد سيخدم بالدرجة الأولى الجماعات الإرهابية المنتشرة في شمال ووسط البلاد، ومن شأنه أن يعيد تمرد الطوارق في النيجر المجاورة، وحتى بوركينافاسو وليبيا، ويفتح المجال لعودة فرنسا مجددا إلى المنطقة تحت عنوان “حماية الأقليات”.

وفي هذا السياق، لفت المراقب العسكري كمال الزغول أن العنصر الاستراتيجي الدولي عامل مهم جدا في تحديد مستقبل الأزمة، وأوضح أن “وجود فاغنر ورغبة الولايات المتحدة في دحرها بمنطقة الساحل يعني أن هناك تضاربا داخل مالي وخارجها على مستوى الإقليم وعلى مستوى القوى الكبرى، إضافة إلى ذلك وجود النفط في تلك المنطقة ونية حرمان الأزواد من أي حصص بعد الحصار الاقتصادي، وعدم تطوير منطقتهم الناتج عن الانقلابات والفوضى في المنطقة”.

لذلك، يؤكد المتحدث “إن لم تنشط دول المنطقة دبلوماسيا مع الأمم المتحدة ودول أخرى كبرى لتثبيت الأمن، فسيكون هناك فوضى أمنية في هذه المنطقة”، في حين يتوقع الدكتور خالد خليف “أن يتحرك أعضاء لجنة متابعة تنفيذ اتفاق السلم سريعا للتنسيق مع الجزائر والأمم المتحدة لإصدار موقف موحد تجاه هذه الأحداث”.

زر الذهاب إلى الأعلى